-->
سجين اوراق قلب سجين اوراق قلب
عمر محمد عطية

‎ ﻻ ﺗﻘﺎﻭﻣﻮﺍ ﺍﻟﺤﺐ ﺑﺎﻟﺸﻚ، ﻻ ﺗﺤﺎﺭﺑﻮﺍ ﺍﻟﺤﻨﻴﻦ ﺑﺎﻟﺒﻌﺪ، ﻻ ﺗﻘﺎﻭﻣﻮﺍ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﺑﺎﻟﻤﻨﻄﻖ، ﻷﻥ ﺍﻟﻤﻘﺎﻭﻣﺔ ﺗﻐﺬﻱ ﺍﻟﻔﺮﺍﻕ، ﻷﻥ ﻣﺤﺎﺭﺑﺔ ﺍﻟﺤﻨﻴﻦ ﺗﻘﺘﻞ ﺻﺎﺣﺒﻬﺎ ﻭ ﺗﺰﻳﺪﻩ ﺫﻵ ﻭ ضعفآ، ﻭ ﻻ ﻳﻘﺎﻭﻡ ﺍﻟﺤﻨﻴﻦ ﻭ ﺍﻟﻘﻠﺐ ﻭ ﺍﻟﺤﺐ ﺇﻻ ﺿﻌﺎﻑ ﺍﻟﻤﺸﺎﻋﺮ ﻭ ﻋﺒﻴﺪ ﺍﻟﺸﻚ، ﺃﻣﺎ ﺍﻟﺼﺎﺩﻗﻮﻥ ﻭ ﺍﻷﻧﻘﻴﺎﺀ ﻓﻜﺮﺁ ﻭ ﺭﻭﺣﺂ ﻓﺈﻧﻬﻢ ﻳﻌﻴﺸﻮﻥ ﺑﺘﻠﻚ ﺍﻟﻠﺤﻈﺎﺕ ﻭ ﻳﻤﻮﺗﻮﻥ ﻓﺨﺮﺁ ﺑﻬﺎ.


recent

: منوعات

recent
recent
جاري التحميل ...
recent

اصدقاء الروح



قبل سنوات كنت طالبآ جامعي كأي طالب آخر  لا يشعر ان الفترة الجامعية ستضيف الى ذخيرته شيئآ، اتعلم العلوم الدينية و علوم الكيمياء و الفيزياء و الجيولوجيا و الهندسة و الرياضيات، ايضآ الفاظ الشوارع التي لم يمتلك لساني يومآ الشجاعة للتلفظ بها، البذاءة و تضييع الوقت و تحصيل الدرجات، فهم الناس و العلاقات و التكافل، مشاركة الناس في ابسط الامور حتى في وجبة الفطور، و رغم ذلك لم تربطني علاقة قوية بالمؤسسات التعليمية، و لا حتى بالأسلوب المتبع فيها لتنشئة الجيل على العلم و الفهم و الصلاح، الامر لم يكن الا مجرد رحلة تعبر فيها من سمستر الى اخر، بل حتى طرقها في احتساب درجات امتحانات اعمال السنة او النصف نهائية و النهائية، دائمآ ما احس ان الامر لا يتم بالطريقة الصحيحة و العادلة.
كان الأمر وقتها بالنسبة لي يشبه تجميع النقاط للحصول على جائزة، هي شهادة تقدير رديئة بشعارين في زاويتيها تشهد فيها الجامعة أمام الله و والديك و العالم اجمع انك التزمت بطريقتها في التعليم و أحرزت ما يؤهلك لتكون جاهزآ لبدء حياتك العملية، لربما كان ذلك هو السبب الرئيسي في عدم شعوري بالفرح المفرط لإحرازي مرتبة الشرف و لتوثق شهادتي بكلمة "امتياز" .. من وجهة نظري ان ما تعلمته وحدي و من كتبي و من الحياة كان اكثر قيمة مما تعلمته من كل تلك المؤسسات.
أتذكر شكلي و أنا أذرع الطريق كل يوم في رحلتي الى الصفوف، انهض وقت الفجر و اعود الى البيت غالبآ بعد الساعة الثامنة مساء، اذ انني كنت ايضآ اركض لاهثآ خلف اللغة الانجليزية، كنت امضي معظم الوقت بين الحصص و هاتفي و كتبي، و بعد كل هذه السنوات و كل هذا القرف، لو ان احدكم سألني "هل أحببت الجامعة ؟" .. لكانت اجابتي جاءت سريعة و بكل ثقة "نعم" .. "هل أضافت لي شيئآ ؟" .. بالتأكيد، الكثير جدآ، اضافت لي الوعي و الإدراك و لا انسى الأصحاب الطيبين و حب اللغة العربية.
حينما وقعت عيناي على هذه الصور، لم اشعر بالحنين لشئ، الا لهؤلاء الحمقى، الحمقى الذين لولاهم ما كنت قادرآ على امضاء خمس سنوات في مكان لا اشعر انه ينتمي الي، رغم انني ادركت خلال هذه الصور، انني لم اتغير مطلقآ، لا زلت ابتسم ابتسامة تبدو مزيفة جدآ، لا زلت اعامل شعري بعدم الاهتمام و لا اقصه الا عندما يبدأ يسبب لي الحكة، لا زلت اقفل زر قميص العلوي كما لو ان نحري عورة، الشئ الوحيد الذي تغير، هو ان كلامي قل كثيرآ، لربما اصلآ لم اكن اشعر بالحرية هكذا بالكلام و الثرثرة الا مع هؤلاء الحمقى، الحمقى الذين احبهم من اعماق قلبي و لكنني مثلهم لا املك الشجاعة الكافية لقول ذلك بوجوههم، عاشرت فيهم البشوش و المتشائم، الغني و الفقير، الصادق و المخادع، السعيد و الحزين، حافظ القران و الشيخ و تارك الصلاة، القيادي و المنقاد، الجبان و الشجاع، المتدين و "الشماسي" و غيرهم، و برغم ذلك كنا نحس بأننا جميعنا اسرة، مختلفون نعم و لكننا نبقى متماسكين مترابطين، يجمعنا الضحك و الحزن و "الفتة"  و اوقات الامتحان و كل شئ تقريبآ.
وددت حينها و انا اشاهد هذه الصور لو انني كنت بشوشآ خفيف الظل كعزو، ذلك القصير الضعيف الذي يمنحك ابتسامة صباحية بدون مقابل، او انني مثل ابو القاسم حافظ القران الذي يشعرنا بحب الخير و المسؤولية و دائمآ ما يشدنا بمقدماته الجميلة العزبة عند كل اجتماع سخيف نقوم به، لا انسى اسامة الذي يشعرك احيانآ بأنه اب و احيانآ بأنه طفل، الجعلي بتعتعته تلك و صوته الرجولي و صرامته، يسار الرجل الهادئ الذي لا يرفع صوته الا نادرآ، البروف الذي نسميه "بقا" الذي كان يعجبه هذا الدور لدرجة انه تغمصه الى ان عاش فيه، لا انسى اكرم و المعز لدين الله الذان كانا يتلقا كل سخافاتي و "تشغيلاتي" ان صحت الكلمة حتى انني لا زلت اتذكر تلك الصفعة على خدي من اكرم و الذي خاصمته عليها بقية اليوم، إلا انني التقيته في اليوم التالي و نحن نضحك و كأن شيئآ لم يحدث، و لن انسى ما حييت شلة اليسار الشمالي المعز عبد الصمد، هيما، الواثق و عمر الذين علموني، انه مهما كان هناك جانب سئ او ناقص في انسان ما، فهناك جوانب اكثر جمالآ و كمالآ فيه نحتاج ان نبحث عنها، البلولة الرجل الباسط يده و الذي سبقنا بالزواج ليس فقط بواحدة بل بإثنتين و الذي كنا نرى فيه تجربة سيئة نتعلم منها الدروس عن الحياة الزوجية، جلال العسكري الذي لا يتوقف عن اخبارنا عن بطولاته في الحرب و الذي لا يتوقف ايضآ عن اخبارنا ان حياة الجندي هي مرتع الرجولة و التضحيات، التجاني الشخص البسيط غضبآ و الجميل خلقآ الذي كان يحمل هم الدفعة كلها و يمثلها مكانآ و زمانآ، احمد و محمد و التاج و النعمان و ديربي و هاشم، و عمر علاء "ود اللواء" و القائمة تطول و لا تتسع لذكر كل الاسماء و العتبى لهم جميعآ.
كنا من بقاع مختلفة من السودان، من اقصى شماله و جنوبه و شرقه و غربه، من قبائل متنوعة لا يربط بينها عادة او عرف او تقليد، لكننا لم نشعر يومآ ان تلك معضلة تحد الترابط بيننا، لا اذكر حتى اننا كنا نتباهى بأمور تافهة كهذه، قيل ان "الانسان الحقيقي هو الذي تخرج من لقائك به و أنت تشعر أن ما تبقى من عمرك سيكون أجمل" .. ذلك كان اجمل احساس منحوني له في اخر يوم لنا في الحرم الجامعي و نحن نأخذ هذه الصور، عرفت منهم ان أداة الصداقة لا تتم بالعاطفة الحية فقط، و لا بالذوق السليم و الخلق المتين في اختيار الاصدقاء، و انما بقبول بعضنا البعض على اي شاكلة كنا، و ان ندفع ببعضنا الى الامام بقدر ما منحنا الله من قدرات و صفات و أخلاق، و عرفت منهم ان القلوب البيضاء الصادقة قليلة و نادرة مثل كل شئ نادر و لكنها ان وجدت تترك بصمة جميلة الذكرى، حية في احساسها، واضحة في معناها، و ان القلوب السوداء السيئة موجودة بكثرة البشر، و لا تترك غير الحسرة و الندم .. الصداقة تبدأ عندما تشعر أنك صادق مع الآخر و بدون أقنعة.

إرسال تعليق

التعليقات



اتصل بنا

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

جميع الحقوق على

سجين اوراق قلب

2024 - 2017 محفوظة لصاحبها عمر محمد عطية